فصل: تفسير الآيات (51- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 55):

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
ولما أفرحهم بما كأنه تسليم لمدعاهم، وكان من البين أن لسان الحال يقول: ألم يكفهم ما جئتهم به من الآيات المرئيات والمسموعات، وعجزوا عن الإتيان بشيء منها، عطف على ذلك قوله منكراً على جهلهم وعنادهم: {أولم يكفهم} أي إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين آية بينة مغنية عن كل آية {أنا أنزلنا} بعظمتنا {عليك الكتاب} أي الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك غالباً على حركاتك وسكناتك {يتلى عليهم} أي يتجدد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وكل زمان من كل تالٍ مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك، يتحدّون بكل شيء نزل منه مع تحديهم بما قبله من آياته صباح مساء، يصفعون بذلك مدى الدهر في أقفائهم ويدفعون، فكلما أرادوا التقدم ردوا عجزاً إلى ورائهم، فأعظم به آية باقية، إذ كل آية سواه منقضية ماضية، وقال الشيخ أبو العباس المرسي: خشع بعض الصحابة رضي الله عنهم من سماع اليهود بقراءة التوراة فعتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن، وهم إنما تخشعوا من التوراة وفي كلام الله فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء.
ولما كان هذا أعظم من كل آية يقترحونها ولو توالى عليهم إتيانها كل يوم لدوام هذا على مر الأيام والشهور، حتى تفنى الأزمان والدهور، أشار تعالى إلى هذا العظمة، مع ما فيها من النعمة، بقوله مؤكداً على جهلهم فيما لزم من كلامهم الأول من إنكار أن يكون في القرآن آيه تدلهم على الصدق: {إن في ذلك} أي إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال {لرحمة} لهم لصقله صدأ القلوب في كل لحظة، وتطهيره خبث النفوس في كل لمحة {وذكرى} أي عظيمة مستمراً تذكرها.
ولما عم بالقول، خص من حيث النفع فقال: {لقوم يؤمنون} أي يمكن أن يتجدد لهم إيمان، ليس من همهم التعنت، قال الحرالي في كتاب له في أصول الدين: ولما كان القرآن لسان إحاطة لم يف بالقيام به خلق من خلق الله، لأنه ببناء على كليه أمر الله حتى أن السورة الواحدة منه لما كان موقع الخطاب بها من مدد بنائه على إحاطة أمر الله لا يستطيعها أحد من الخلق، وإذا كان الأقل من كلام العالم لا يستطيعه من دون رتبته، فعجز الخلق عن كلام الله أحق وأولى، ثم كل ناظر فيه- من أيّ وجه نظره- أدرك بمقتضى علوه على رتبته وجهاً من العجز فيه، إن كان فصيحاً بليغاً فمن جهة البلاغة، ومعناها بلوغ الكلام في مطابقة أنبائه ويسمى الفصاحة، وحسن نظم حروف كلماته ويسمى الجزالة، وكمال انتظام كلماته وآياته، ويسمى حسن النظم- إلى أنهى غاياته وأتم نهاياته، وإن كان عالماً بأخبار الأولين فبصحة مقتضاها فيه، وإن كان حكيماً فبالإعلام الأتم بوجه تقاضي المترتبات، وبالجملة فما يكون لأحد أصل من عقل وحظ من علم- أي علم كان- إلا ويجد له موقعاً في القرآن، يفي له بحظ بيان علو مرتبة أنبائه على نهاية مدركة منه بمقدار لا يرتاب في وقوعه فوق طور الخلق، فكان آية باقية دائمة لم يتفاوت في تلقيه أول سامع له من آخر سامع في وجه سماعه، فكل نبي فقدت آيته بفقده أو بفقد وقت ظهورها على يديه، وآية محمد صلى الله عليه وسلم باقية ببقاء الله، فجهات ظهور إعجازه تأتي على حظوظ أصناف الخلق من وجوه الإدراك، لا يتعين لظهور الإعجاز فيه جهة، ولا يفقد ناظر فيه حظاً يتطرق بمقدار إدراكه منه إلى يقين وجه إعجازه، وذلك لما كان محيطاً بكل تفصيل وكل إجمال، ولم يفرط فيه من شيء، وكان تفصيلاً لكل شيء ولإحاطته بإثبات كل رتبة من رتب حكمة الله تعالى لم يقدر أحد من الخلق في التوقف عن الإيمان به من الجن والإنس والأحمر والأسود وجميع خلق الله، من يعرفه الناس منهم ومن لا يعرفونهم ممن أحاط بهم علم العالمين بإعلام الله، ومن حكم إحاطة كتابة كان ممكناً من عالية كل آية جاء بها نبي قبله ممن شاهد ذلك منه حاضروه، ونقله نقل التواتر والاستفاضة حملة العلم خلفاً عن سلف؛ ثم رتب قياساً على إثبات النبوة فقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آية هذا القرآن المشهود، وهذا القرآن المشهود معجز كل ذي إدراك، وبشرى من كل جهة من جهات معانيه وبلاغته، فذو آية هذا القرآن نبي، فمحمد صلى الله عليه وسلم نبي، أما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيته فبالتجربة السمعية المتيقنة المسماة بالتواتر، وأما أن هذا القرآن معجز فيما يجده كل ناظر في معناه المشتمل على تمام الحكمة فيما هو كائن ونبأ ما كان من قبل وخبر ما يكون بعد المتيقن بوقوع أوائله وقوع جملته وصحة خبره، وبذلك يتضح أن ذا آيته نبي، ثم بما تضمنه من شهادته لذي آيته وتصريحه بذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فصح أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو ايته، وإنه نبي صلى الله عليه وسلم، والمستعمل في ذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم تحدى بهذا القرآن العرب الفصحاء واللد البلغاء، فلما لجؤوا للحرب وضح أنهم فروا لذلك المكان ما وجدوه في أنفسهم من العجز، وإذا عجز أولئك فمن بعدهم أحق بالعجز، فلما شمل العجز الكل من الخلق، وجب العلم بأن هذا القرآن حق، والمتحدي به نبي جاء بالصدق، وحاصله: لو لم تعجز العرب لم تحارب ثقل الحرب وخفة المعارضة لو استاطاعوها، ولم يعارضوا وحاربوا فقد عجزوا، فثبت بذلك أنه نبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون: نحن لا نصدق أن هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن نكتفي به، قال: {قل} أي جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا: {كفى بالله} أي الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات، الذي شهد لي بالرسالة في كتابة الذي أثبت أنه كلامه عجز الخلق عن معارضته.
ولما كانت العناية في هذه السورة بذكر الناس، وتفصيل أحوالهم، ابتدأ بقوله: {بيني وبينكم} قبل قوله: {شهيداً} بخلاف الرعد والأنعام، ثم وصف الشهيد أو علل كفايته بقوله: {يعلم ما في السماوات} أي كلها. ولما لم يكن للارض غير هذه التي يشاهدونها ذكر في إتيان الوحي والقرآن منها، أفرد فقال: {والأرض} أي لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما ينسبونه إليّ من التقول عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي شهد لي به عجزكم عنه فهو شاهد لي، والله في الحقيقة هو الشاهد لي، بما فيه من الثناء عليّ، والشهادة لي بالصدق، لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه وسيتحقق بالعقل إبطال المبطل منا.
ولما كان التقدير: وأنتم تعلمون أنه قد شهد لي بأني على الحق، وأن كل ما خالف ما جئت به فهو باطل، فالذين آمنوا بالحق وكفروا بالباطل فأولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله: {والذين آمنوا بالباطل} أي الذي لا يجوز الإيمان به من كل معبود سوى الله {وكفروا بالله} الذي يجب الإيمان به والشكر له، لأنه له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم {أولئك} البعداء البغضاء {هم} أي خاصة {الخاسرون} أي العريقون في الخسارة، فإنهم خسروا أنفسهم أبداً.
ولما كان قولهم مرة واحدة {لولا أنزل عليه آية} عجباً، أتى بعد إخباره بخسارتهم بأعجب منه، وهو استمرار استعجالهم بما لا قدرة لهم على شيء منه من عذاب الله فقال: {ويستعجلونك} أي يطلبون تعجيلك في كل وقت {بالعذاب} ويجعلون تأخره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب {ولولا أجل مسمى} قد ضرب لوقت عذابهم لا تقدم فيه ولا تأخر {لجاءهم العذاب} وقت استعجالهم، لأن القدرة تامة والعلم محيط.
ولما أفهم هذا أنه لابد من إتيانه، صرح به في قوله مؤكداً رداً على استهزائهم المتضمن للإنكار: {وليأتينهم} ثم هوّله بقوله: {بغتة} وأكد معناها بقوله: {وهم لا يشعرون} بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله مبدلاً: {يستعجلونك بالعذاب} أي يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به، فلو علموا ما هم سائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه.
ولما كان دخولهم النار لابد منه لإحاطة القدرة بهم، قال مؤكداً لإنكارهم الآخرة بإثبات أخص منها: {وإن جهنم} التي هي من عذاب الآخرة {لمحيطة} أي بما هي مهيأة له، لأنه لا يفوتها شيء منه، لأن الذي أعدها عليم قدير، وقال: {بالكافرين} موضع بهم تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها، وتعميماً لكل من اتصف به.
ولما كان هذا كله دليلاً على إنكارهم قال: {يوم} أي يعلمون ذلك اليوم {يغشاهم العذاب} أي يلحقهم ويلصق بهم ما لا يدع لهم شيئاً يستعذبونه، ولا أمراً يستلذونه ونبه على عدم استغراق جهة الفوق مع استعلائه عليهم بإثبات الجار فقال: {من فوقهم} ولما أفهم ذلك الإحاطة بما هو أدنى من جهة الفوق، صرح به فقال: {ومن تحت أرجلهم} فعلم بذلك إحاطته بجميع الجواتب، وصرح بالرجل تحقيقاً للآدمي {ويقول} أي الله في قراءة نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالتحتانية جرياً على الأسلوب الماضي، أو نحن بعظمتنا في قراءة الباقين ترويعاً بالالتفات إلى مظهر العظمة: {ذوقوا} ما سببه لكم {ما كنتم} بغاية الرغبة {تعملون} أي في ذلك اليوم تعملون ذلك حق اليقين بعد علمكم له عين اليقين بسبب تكذيبكم بعلم اليقين.

.تفسير الآيات (56- 59):

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}
ولما أبلغ في الإنذار، وحذر من الأمور الكبار، ولم يهمل الإشارة إلى الصغار، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار، وكان قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي للمؤمنين، قال مخاطباً لهم معرضاً عن سواهم إذا كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استيقظت، التفاتاً على قراءة الجمهور إلى التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت: {يا عبادي} فشرفهم بالإضافة، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ، حقق ذلك بقوله: {الذين آمنوا} أي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب.
ولما كان نزول هذه السورة بمكة، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفاً من الكفار، وكانت الهجرة الأهل والأوطان شديدة، قال مؤكداً تنبيهاً على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة: {إن أرضي واسعة} أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلي في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفاً، فهاجروا إلى أرض تتمكنون فيها من ذلك.
ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان في صورة الشرك قال: {فإياي} أي خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا {فاعبدون} بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره، عبادة لا شرك فيها، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافاً بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينكم عليه.
ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حيث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة: {كل نفس ذائقة الموت} أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسره، ولا يسير إلا عسره وكدره.
ولما هوّن أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال: {ثم إلينا} على عظمتنا، لا إلى غيرنا {ترجعون} على أيسر وجه، فيجازي كلاً منكم بما عمل.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصنهم في جزائهم، والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تحت دركات فبئس مثوى الظالمين، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريباً، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله: {والذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي كلها.
ولما كان الكفار ينكرون البعث، فكيف ما بعده، أكد قوله: {لنبوئنهم} أي لنسكننهم في مكان هو جدير بأن يرجع إليه من حسنه وطيبه من خرج منه لبعض أغراضه، وهو معنى {من الجنة غرفاً} أي بيوتاً عالية تحتها قاعات واسعة بهية عالية، وقريب من هذا المعنى قراءة حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من ثوى بالمكان- إذا أقام به.
ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال: {تجري} ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه، بعضه فقال: {من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار، إلا كان به بساتين كبار، وزروع ورياض وأزهار- فيشرفون عليها من تلك العلالي.
ولما كانت بحالة لا نكد فيها يوجب هجره في لحظة ما، كنى عنه بقوله: {خالدين فيها} أي لا يبغون عنها حولاً؛ ثم عظم أمرها، شرف قدرها، بقوله: {نعم أجر العاملين} ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة، فقال معرفاً بجماع الخير كله الصبر وكونه على جهة التفويض لله، منبهاً على أن الإنسان لا ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه: {الذين صبروا} أي أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرت عندهم فكانت سجية لهم، فأوقعوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها.
ولما كان الإنسان إلى المحسن إليه أميل، قال مرغباً في الاستراحة بالتفويض إليه: {وعلى ربهم} أي وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون} أي يوجدون التوكل إيجاداً مستمر التجديد عند كل مهم يعرض لهم إرزاقهم بعد الهجرة وغيرها وجهاد أعدائهم وغير ذلك من أمورهم.

.تفسير الآيات (60- 63):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}
ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة، لا مال ولا أهل، قال عاطفاً على ما تقديره: فكأيّ من متوكل عليه كفاه، ولم يحوجه إلى أحد سواه، فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طالباً لرضاه: {وكأيّن من دابة} أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا تحمل} أي لا تطيق أن تحمل {رزقها} ولا تدخر شيئاً لساعة أخرى، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك، وقد تدركه وتتوكل، أو لا تجد.
ولما كان موضع أن يقال: فمن يرزقها؟ قال جواباً له: {الله} أي المحيط علماً وقدرة، المتصف بكل كمال {يرزقها} وهي لا تدخر {وإياكم} وأنتم تدخرون، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون، فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظور إليه.
ولما كان أهم ما للحيوان الرزق، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقاً ويهمهم به إن كان صامتاً، أما العاقل فبأمور كلية، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية، وكان العاقل ربما قال: إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك، قال تعالى: {وهو السميع} أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره {العليم} أي بما يعلم من ذلك، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه، وهو قادر على أن يسبب لما اعتمد عليه الإنسان من الأسباب المنتجة عنده ولابد ما يعطله، وعلى أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيه، ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف- نفعنا الله بهم- وجد كثيراً من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره.
ولما هوّن سبحانه أمر الرزق بخطابه مع المؤمنين بعد أن كان قد أبلغ في تنبيه الكافرين بإيضاح المقال، وضرب الأمثال، ولين المحاورة في الجدال، ولما كان الملك لا يتمكن غاية التمكن من ترزيق من في غير مملكته، قال عاطفاً على نحو: فلئن سألتهم عن ذلك ليصدقنك عائداً إلى استعطاف المعرضين، واللطف بالغافلين، ناهجاً في تفنين الوعظ أعني طرق الحكمة، فإن السيد إذا كان له عبدان: مصلح ومفسد، ينصح المفسد، فإن لم يسمع التفت إلى المصلح، إعراضاً عنه قائلاً: هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت ولا تكن مثله، فكان قوله متضمناً نصح المصلح وزجر المفسد، ثم إذا سمع وعظ أخيه كان ذلك محركاً منه بعد التحريك بالإعراض والذم بسوء النظر لنفسه وقلة الفطنة، فإذا خاطبه بعد هذا وجده متهيئاً للقبول، نازعاً إلى الوفاق، مستهجناً للخلاف: {ولئن سألتهم} أي المؤمن وغيره، وأغلب القصد له: {من خلق السماوات والأرض} وسواهما على هذا النظام العظيم {وسخر الشمس والقمر} لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات، وغير ذلك من المنافع.
ولما كان حالهم في إنكار البعث حال من ينكر أن يكون سبحانه خلق هذا الوجود، أكد تنبيهاً على أن الاعتراف بذلك يلزم منه الاعتراف بالبعث فقال: {ليقولن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال لما قد تقرر في فطرهم من ذلك وتلقفوه عن أبائهم موافقة للحق في نفس الأمر.
ولما كان حال من صرف الهمة عنه عجباً يستحق أن يسأل عنه وجه التعجب منه إشارة إلى أنه لا وجه له، قال {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {يؤفكون} أي يصرف من صارف ما من لم يتوكل عليه أو لم يخلص له العبادة في كل أحواله، وجميع أقواله وأفعاله، عن الإخلاص له مع إقرارهم بأنه لا شريك له في الخلق فيكون وجهه إلى قفاه فينظر الأشياء على خلاف ما هي عليه فيقع في خبط العشواء وحيرة العجباء.
ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند كل من لم يتأمل حق التأمل فيقال: بكل الخلق والرزق له، فما بالهم متفاوتين في الرزق؟ قال: {الله} أي بما له من العظمة والإحاطة بصفات الكمال {يبسط الرزق} بقدرته التامة {لمن يشاء من عباده} على حسب ما يعلم من بواطنهم {ويقدر} أي يضيق.
ولما كان ذلك إنما هو لمصالح العباد وإن لم يظهر لهم وجه حكمته قال: {له} أي لتظهر من ذلك قدرته وحكمته، وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم، فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك، وهذه الآية نتيجة ما قبلها.
ولما كان سبحانه يرزق الناس، ويمكن لهم بحسب ما يعلم من ضمائرهم أنه لا صلاح إلا فيه، قال معللاً لذلك ومؤكداً رداً على من يعتقد أن ذلك إنما هو من تقصير بعض العباد وتشمير بعضهم، معلماً بأنه محيط العلم فهو محيط القدرة فهو الذي سبب عجز بعضهم وطاقة الآخرين لملازمة القدرة العلم: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {بكل شيء} أي من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف تمنع او تساق وغير ذلك {عليم} فهو على ذلك كله قدير، يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني، فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال.
ولما ثبت بهذا شمول علمه، لزم تمام قدرته كما برهن عليه في طه، فقال مشيراً إلى ذلك ذاكراً السبب القريب في الترزيق بعد ما ذكر البعيد، فإن الاعتراف بأن هذا السبب منه يستلزم الاعتراف بأن المسبب أيضاً منه: {ولئن سألتهم من نزل} بحسب التدريج على حسب ما فعل في الترزيق، ولما كان ربما ادعى مدع أنه استنبط ماء فأنزله من جبل ونحوه، ذكر ما يختص به سبحانه سالماً عن دعوى المدعين فقال: {من السماء ماء} بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو {فأحيا} ولما كان أكثر الأرض يحيى بماء المطر من غير حاجة إلى سقي، قدم الجار فقال {به الأرض} الغبراء، وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات، وإلى أنهم لا يعلمون إلى الجزئيات الموجودة المحسوسة، ولا تنفذ عقولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ أهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجده سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الذي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال: {من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك، وأكد لمثل ما تقدم من التنبيه على أن حالهم في إنكار البعث حال من أن ينكر أن يكون الله صانع ذلك، لملازمة القدرة عليه القدرة على البعث بقوله: {ليقولن الله} وهو الذي الكمال كله، فلزمهم توحيده.
فلما ثبت أنه الخالق بدءاً وإعادة كما يشاهد في كل زمان، قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم: {قل} معجباً منهم في جمودهم حيث يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها {لله} الذي لا سمي له وليس لأحد غيره إحاطة بشيء من الأشياء، فلزمهم الحجة بما أقروا به من إحاطته، وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم عنه {بل أكثرهم لا يعقلون} أي لا يتجدد لهم عقل، بعضهم مطلقاً لأنه مات كافراً حيث هم مقرون بمعنى الحمد من أنه الخالق لكل شيء بدءاً وإعادة ثم يفعلون ما ينافي ذلك فيشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه ولا يتوكلون في جميع الأمور براً وبحراً عليه ويوجهون العبادة خالصة إليه، فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يتبعه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك، فكان نفي العلم عنه مقيداً بالكمال.